اولا : من الناحية الشرعية :-

1- نص الحديث النبوى الشريف :-

عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو يُعطى الناس بدعواهم ، لادّعى رجالٌ أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ) رواه البيهقي وغيره .

2- شرح الحديث الشريف :-

جبل الله النفس على الضعف ، كما قال تعالى : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (النساء :28) ، وهذا الضعف يشمل الضعف النفسي ، والضعف البدني ، وقد يصبح الضعف في بعض الأحيان مولداً للأخلاق الرديئة ، والصفات الذميمة ، حتى يقود الإنسان إلى أن يدّعي على أخيه ما ليس من حقّه ، فيزعم أنه قد أخذ له مالاً ، أو سفك له دماً ، أو أخذ أرضا ، بدعوات كثيرة ليست مبنية على دليل أو برهان ، بل هي تهم باطلة قائمة على البغي والعدوان .

ولو كانت الموازين البشرية أو مقاييسها هي المرجعية فيما يقع بين الناس من اختلاف ، لعمت الفوضى ، وانتشر الظلم ، وضاعت حقوق الناس ، وأُهدرت دماء واستبيحت أموال بغير حق ، لكن من رحمة الله أنه لم يترك الناس هملا ، ولم يكلهم إلى أنفسهم ، بل شرع لهم من الشرائع ما هو كفيل بتحقيق العدل والإنصاف بين الناس ، وما هو سبيل لتمييز الحق من الباطل ، بميزان لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بالعاطفة ، ولكنه راسخ رسوخ الجبال ، قائم على الوضوح والبرهان .

إن هذا الحديث  يبيّن أن مجرد ادعاء الحق على الخصم لا يكفي ، إذا لم تكن هذه الدعوى مصحوبة ببينة تبين صحة هذه الدعوى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكن البيّنة على المدّعي ) .

3- تعريف البيّنة :

اسم جامع لكل ما يظهر الحق ويبيّنه ، وعلى هذا فهناك أمور كثيرة يصدق عليها هذا المعنى ، فمن ذلك : الشهود ، فعندما يشهد الشهود على حق من الحقوق فإن ذلك من أعظم البراهين على صدق المدّعي ، ومن هنا أمرنا الله بالإشهاد في الدَّيْن حفظا لهذا الحق من الضياع فقال : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ } (البقرة:282) .

ومن البينات أيضا ، إقرار المدعى عليه ، وهو في الحقيقة من أعظم الأدلة على صحة الدعوى ، كما ذكر ذلك الفقهاء ، ومن هذا الباب أيضا ، القرائن الدالة على القضية ، وفهم القاضي للمسألة باختبار يجريه على المتخاصمين ، إلى غير ذلك من أنواع البيّنات .

ولعل سائلا يسأل : لماذا اختص المدعي بالبينة ، والمنكر باليمين ؟ وما هي الحكمة من هذا التقسيم ؟

والجواب على ذلك :- أن الشخص إذا ادعى على غيره أمرا ، فإنه يدعي أمرا خفيا يخالف ظاهر الحال ، فلذلك يحتاج إلى أن يساند دعواه تلك ببيّنة ظاهرة قوية تؤيد صحة دعواه، بينما يتمسّك المنكر بظاهر الأمر ، ويبقى على الأصل ، فجاءت الحجة الأضعف – وهي اليمين – في حقه .

فإذا لم يأت المدعي بالبينة ، وأنكر المدعى عليه استحقاق خصمه وحلف على ذلك ، لزم القاضي أن يحكم لصالح المنكر ، لأنه حكمه هذا مبني على ظاهر الأمر والحال .

وعلى أية حال ، فإن هذا الحديث تربية شاملة للأمة الإسلامية على الأمانة في أقوالهم ، والعدل في أحكامهم ، دون النظر إلى لون أو جنس أو معرفة سابقة ، وجدير بمجتمع يقوم على هذه القيم أن يكتب له التمكين على الأرض .

4- البينة على من يدعي خلاف الأصل :

ولكن قاعدة “البينة على من أدعى، واليمين على من أنكر” تحول بساطتها دون مواجهة الصعوبات التي تعرض في العمل .

فقد يقع أن المدعي، حتى في الدعوى التي رفعها، لا يُكلف بالإثبات، بل يُكلف خصمه وفقاً لطبيعة ووضع كل منهما .

فمن رفع دعوى على جاره يطالبه بسد المطل، لا يُكلف – وهو المدعي في الدعوى – بإثبات أن جاره فتح المطل دون أن يكون له حق ارتفاق، بل الجار ( وهو المدعى عليه) هو الذي يثبت أن له حق ارتفاق، يجيز فتح المطل .

ففي هذا المثال يقع عبء الإثبات على المدعى عليه لا على المدعي. لأن طبيعة الوضع تقضي بخلو العقار من حقوق الارتفاق حتى يثبت ذو المصلحة عكس ذلك .

وكذلك فمن يرفع دعوى على خصمه يطلب الحكم لها فيها ببراءة ذمته من دين أو التزام يطالبه به خصمه، فالمدعي في دعوى براءة الذمة لا يُكلف بإثبات براءة ذمته، بل على خصمه المدعى عليه أن يثبت أن ذمة المدعي مشغولة بدين له لم يف به .

لأن طبيعة الوضع تقضي بأن الأصل هو براءة الذمة وانشغالها عارض، وعلى من يدعي خلاف الثابت أصلاً إثبات ما يدعيه من انشغال الذمة .

ومن ثم، فإن القول بأن المدعي هو الذي يحمل عبء الإثبات لا يستقيم في جميع الفروض، فوجب إذن البحث عن قاعدة تكون أكثر انضباطاً .

وقد وضعت قاعدة في هذا الصدد من شقين، تستجيب لطبائع الأشياء.

فقيل إن :-

“من يتمسك بالثابت أصلاً لا يُكلف بإثباته، أما من يدعي خلاف الأصل فعليه هو يقع عبء إثبات ما يدعيه”

 أ – الشق الأول من القاعدة :-

ذلك أن من يتمسك بالثابت أصلاً، وإن كان من الجائز ألا يكون عل حق من ناحية الواقع والعدالة، إلا أنه من ناحية القانون – ومن أجل استقرار التعامل – يجب أن يحمى، فيترك على الأصل دون أن يتكلف عناء أي إثبات .

ب – الشق الثاني من القاعدة :-

أما من يدعي خلاف الأصل، فهو يستحدث جديداً لا تدعمه قرينة “بقاء الأصل على أصله”، فعليه أن يثبت هذا الجديد حتى يتمتع بحماية القانون.

ونرى ان الفقه الإسلامي يستجيب لهذا المبدأ ، فمن قواعده المقررة أن :- “الأصل براءة الذمة“، وأن “الحادث يضاف إلى أوقاته“، وأن “الأصل بقاء ما كان على ما كان“، وأن “الأصل في الصفات العارضة العدم“، وأن “ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه“، وأن “المنكر هو من يتمسك ببقاء الأصل“.

ثانيا : من الناحية القانونية :-

تنص المادة (1) من قانون الاثبات على انه “على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه ”

فالمشرع المصري ذكر داخل نصوصه تلك القاعدة واوردها في العديد من مواد القانون ك قاعدة اصيلة وسنشرحها في السطور التالية مع ايراد قواعد النقض المقررة في ذلك الصدد .

 1- تكون البينة على من يدعي خلاف ما هو ثابت فعلاً:-

ومن يتمسك بما هو ثابت “أصلاً” أو “ظاهراً” أو “فرضاً” يمكنه أن يتمسك بما هو ثابت “حكماً” فهو لا يكلف بالإثبات، بل من يدعي خلاف ما هو ثابت حكماً هو الذي يحمل عبء الإثبات.

أ- وفي نطاق الحقوق العينية، الأصل هو الظاهر:-

وفي نطاق الحقوق العينية، الأصل هو “الظاهر” فالحائز للعين لا يطالب بإثبات ملكيتها لأن الظاهر هو أن الحائز مالك، والخارج الذي يدعي ملكية العين هو الذي يدعي خلاف ذلك الظاهر، فعليه هو يقع عبء الإثبات، ومن ثم كان الحائز هو المدعى عليه دائماً في دعوى الملكية.

وكذلك الظاهر أن حق الملكية خال من أن يثقل بحق عيني، فالمالك إذا تمسك بهذا الظاهر لا يطالب بإثباته، ومن يدعي خلاف الظاهر، بأن يدعي مثلاً أن له حق ارتفاق أو حق انتفاع أو حق رهن على العين، كان عليه أن يثبت هو قيام الحق الذي يدعيه، ولو كان مدعى عليه في الدعوى الأصلية (كدعوى نفي حق ارتفاق، أو دعوى سد مطل مثلاً)، لأنه يدعي خلاف الظاهر.

ب – في نطاق الحقوق الشخصية، الأصل هو براءة الذمة :-

وفي نطاق الحقوق الشخصية، الأصل هو براءة الذمة من كل التزام، فمن يتمسك بالأصل لا إثبات عليه، ومن يدعي خلاف الأصل، بأن يدعي ديناً في ذمة الغير قِبله، عليه أن يثبت مصدر هذا الدين، فمن ادعى أنه أقرض آخر مبلغاً من المال عليه أن يثبت عقد القرض، ومن طالب آخر بثمن مبيع عليه أن يثبت عقد البيع، والشريك الذي يطالب شريكه بنصيبه في الخسارة عليه أن يثبت عقد الشركة وأن يثبت مقدار الخسارة التي لحقته .

ويتفرع على ذلك مواقف عدة يختار القانون فيها وضعاً يعتبره هو الأصل، فمن تمسك به لا يُكلف بإثبات شيء، ومن ادعى خلافه فعليه عبء الإثبات، مثل ذلك “الأهلية”، فالأصل أن كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون المادة 109 من القانون المدني المصري تنص على أن “كل شخص أهل للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون”.

ومثل ذلك أيضاً “عيوب العقد”، فالأصل أن يكون العقد سليماً من العيوب، ومن يدعي أن بالعقد عيباً عليه إثباته.

ومثل ذلك أخيراً “إجازة العقد القابل للإبطال”، فالأصل عدم إجازة العقد، ومن يدعي أنه أُجيز عليه أن يثبت هذه الإجازة.

2- وقد قضت محكمة النقض المصرية في هذا الصدد بأنه :-

“من المقرر في قضاء محكمة النقض ، أنه إذا أدعى المنكر في الدعوى خلاف الظاهر فيها، يقع عليه عبء إثبات ما يخالفه، سواء كان مدعي أصلاً في الدعوى أم مدعى عليه فيها”.

(نقض مدني في الطعن رقم 1808 لسنة 50 قضائية – جلسة 3/6/1987)

وقد تواترت أحكام محكمة النقض المصرية على أنه “تنص المادة الأولى من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 على أنه على الدائن إثبات الالتزام وعلى المدين إثبات التخلص منه، فالأصل هو براءة الذمة وانشغالها عارض ويقع عبء الإثبات على عاتق من يدعى خلاف الثابت أصلاً مدعياً كان أو مدعى عليه”.

(نقض مدني في الطعن رقم 916 لسنة 48 قضائية – جلسة 26/12/1983 )

كما قضت محكمة النقض المصرية بأنه “مؤدى نص المادة 172 / 1 من القانون المدني أن المشرع استحدث في نطاق المسئولية التقصيرية تقادماً قصيراً يقضى بسقوط دعوى التعويض الناشئة عن عمل غير مشروع بانقضاء ثلاث سنوات وجعل من شروط هذا التقادم أن يبدأ سريان مدته من اليوم الذي يعلم فيه المضرور بالضرر الحادث ويقف على شخص من أحدثه فإذا لم يعلم بالضرر الحادث أو يقف على شخص من أحدثه، فلا يبدأ سريان هذا التقادم القصير، ولم يرد في النص المذكور ذكر تاريخ وقوع الحادث ولا ما يفيد افتراض علم المضرور بالضرر الحادث والوقوف على شخص محدثه من هذا التاريخ، والأصل عدم العلم، وقد ادعى الطاعنان في الدفع المبدى منهما بسقوط الدعوى بالتقادم علم المطعون ضدهما بالضرر الحادث وبشخص من أحدثه قبل رفع الدعوى بثلاث سنوات، فيكون عليهم عبء إثبات ذلك، إذ أن المشرع عنى بتحديد من يقع عليه عبء الإثبات مستهدياً في ذلك بالمبدأ العام في الشريعة الإسلامية والذي يقضى بأنه “البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر“، والمراد بمن أدعى ليس من رفع الدعوى بل كل خصم يدعى على خصمه أمراً على خلاف الظاهر، سواء كان مدعياً في الدعوى أو مدعى عليه”.

(نقض مدني في الطعن رقم 392 لسنة 52 قضائية – جلسة 23/1/1983 )

ومن المقرر في قضاء محكمة النقض أن “الفقرة الأولى من المادة ١٧٢ من القانون المدنى تنص على أنه تسقط بالتقادم الدعوى الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذى علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسئول عنه وتسقط هذه الدعوى في كل حال بانقضاء خمسة عشر سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع ” ومؤدى ذلك أن المشرع استحدث في نطاق المسئولية التقصيرية تقادماً قصيراً يقضى بسقوط دعوى التعويض الناشئة عن عمل غير مشروع بانقضاء ثلاث سنوات وجعل من شروط هذا التقادم أن يبدأ سريان مدته من اليوم الذى يعلم فيه المضرور بالضرر الحادث ويقف على شخص من أحدثه ، فلا يبدأ سريان هذا التقادم القصير ولم يرد في النص المذكور ذكر تاريخ وقوع الحادث ولا ما يفيد افتراض علم المضرور بالضرر الحادث والوقوف على شخص محدثه من هذا التاريخ والأصل عدم العلم ، وقد إدعى الطاعنان في الدفع المبدى منهما بسقوط الدعوى بالتقادم علم المطعون ضده بالضرر الحادث وبشخص من أحدثه قبل رفع الدعوى بثلاث سنوات فيكون عليهما عبء اثبات ذلك ، إذ أن المشرع عنى بتحديد من يقع عليه عبء الإثبات مستهدياً في ذلك بالمبدأ العام في الشريعة الاسلامية والذى يقضى بأن ” البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ” والمراد بمن أدعى ليس في رفع الدعوى بل كل خصم يدعى على خصم أمراً على خلاف الظاهر سواء كان مدعياً في الدعوى أو مدعى عليه ، وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر فإنه يكون قد طبق صحيح القانون ويكون النعى عليه على غير أساس” .

( الطعن رقم ١٧٠٤١ لسنة ٨٥ قضائية الدوائر المدنية – جلسة 7/6/2016 )

ومن المقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن “النص في المادة الثانية من اللائحة الجمركية على أنه يجوز فيما وراء حدود دائرة المراقبة الجمركية نقل البضائع بحرية وذلك فيما عدا الاستثناءات الواردة بها ، ومن مقتضى هذا النص أن يكون الأصل فى البضائع الموجودة فيما وراء حدود هذه الدائرة أنها تعتبر خالصة الرسوم الجمركية وأن يكون مدعى خلاف هذا الأصل هو المكلف قانوناً بإثباته”.

(نقض مدني في الطعن رقم 58 لسنة 19 قضائية – جلسة 22/2/1951 )

ومن المقرر في قضاء محكمة النقض أن “المدعى ملزم بإقامة الدليل على ما يدعيه سواء أكان مدعى أصلاً فى الدعوى أم مدعى عليه فيها ، ولئن كانت الطاعنة مدعى عليها فى الدعوى إلا أنها تعتبر فى منزلة المدعي بالنسبة للدفع المبدى منها بعدم اختصاص المحكمة محلياً بنظر الدعوى وتكون مكلفة قانوناً بإثبات ما تدعيه لأنها إنما تدعى خلاف الظاهر وهو ما أثبت فى صحيفة افتتاح الدعوى من أن إعلانها قد تم بمحل إقامتها المحدد فى القاهرة”.

(نقض مدني في الطعن رقم 38 لسنة 45 قضائية – جلسة 12/1/1977 )

ومن المقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن “الأصل فى الإجراءات أن تكون قد روعيت، وعلى من يدعى أنها خولفت إقامة الدليل على ما يدعيه، كما لا يجوز له أن يجحد ما أثبته الحكم إلا بالطعن بالتزوير”

(نقض مدني في الطعن رقم 107 لسنة 40 قضائية – جلسة 2/6/1979 )

(نقض مدني في الطعن رقم 1088 لسنة 48 قضائية – جلسة 24/5/1984 )

ومن المقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن: “الأصل – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – خلو المكان لمالكه، فيكفى الشركة المطعون ضدها إثباتاً لواقعه الغصب التى تقيم عليها دعواها أن تقيم الدليل على وجود الطاعن فى العين محل النزاع المملوكة لها، لينتقل بذلك عبء إثبات العكس على عاتق الطاعن “المغتصب” بوصفه مدعياً خلاف الأصل ويثبت أن وجوده بالعين يستند إلى سبب قانوني يبرر ذلك”

(نقض مدني في الطعن رقم 133 لسنة 55 قضائية – جلسة 14/12/1989 )